قوله تعالى: {الحمد لله} قد شرحناه في أول الفاتحة. والمراد بعبده هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب: القرآن، تمدَّح بانزاله، لأنه إِنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامَّة. قال العلماء باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب {قيّماً} أي: مستقيماً عدلاً. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش: {قِيَماً} بكسر القاف، وفتح الياء، وقد فسرناه في [الأنعام: 161].قوله تعالى: {ولم يجعل له عوجا} أي: لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العِوَج في [آل عمران: 99].قوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً} أي: عذاباً شديداً، {من لدنه} أي: من عنده، ومن قِبَلِه، والمعنى: لينذر الكافرين {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم} أي: بأن لهم {أجراً حسناً} وهو الجنة. {ماكثين} أي: مقيمين، وهو منصوب على الحال. {وينذر} بعذاب الله {الذين قالوا اتخذ الله ولداً} وهم اليهود حين قالوا: عزيرٌ ابن الله، والنصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا: الملائكة بنات الله، {ما لهم به} أي: بذلك القول {من عِلْم} لأنهم قالوا: أفْتَرَى على الله، {ولا لآبائهم} الذين قالوا ذلك، {كَبُرَتْ} أي: عَظُمَتْ {كلمةً} الجمهور على النصب. وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: {كلمةٌ} بالرفع. قال الفراء: من نصب، أضمر: كُبْرتْ تلك الكلمةُ كلمةً، ومن رفع، لم يضمر شيئاً، كما تقول: عَظُم قولك. وقال الزجاج: من نصب، فالمعنى: كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولداً كلمة، و{كلمةً} منصوب على التمييز. ومن رفع، فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم: اتخذ الله ولداً.قوله تعالى: {تخرج من أفواههم} أي: إِنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، {إِن يقولون} أي: ما يقولون {إِلا كذبا}. ثم عاتبه على حُزْنِهِ لفوت ما كان يرجو من إِسلامهم، فقال: {فلعلك باخع نفسك} وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وقتادة: {باخعُ نفسِك} بكسر السين، على الإِضافة. قال المفسرون واللغويون: فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد أبو عبيدة لذي الرمَّة:ألا أيُّهَذَا الباخِعُ الوجْد نَفْسَهُ *** لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المقَادِرُأي: نحَّتْه. فإن قيل: كيف قال: {فلعلك} والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟فالجواب: أنها ليست بشكّ، إِنما هي مقدَّرة تقدير الاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إِعراضهم، فإن من حَكَمْنَا عليه بالشِّقْوَةِ لا تجدي عليه الحسرة، ذكره ابن الأنباري.قوله تعالى: {على آثارهم} أي: من بعد تولِّيهم عنك {إِن لم يؤمنوا بهذا الحديث} يعني: القرآن {أسفا} وفيه أربعة أقوال.أحدها: حَزَناً، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.والثاني: جَزَعاً، قاله مجاهد.والثالث: غَضَباً، قاله قتادة.والرابع: نَدَماً، قاله السدي. وقال أبو عبيدة: نَدَماً وتَلهُّفاً وأَسىً. قال الزجاج: الأسف: المبالغة في الحزن، أو الغضب، يقال: قد أسف الرجل، فهو أَسيف، قال الشاعر:أَرَى رَجُلاً مِنْهُمْ أَسِيفاً كَأَنَّما *** يَضُمُّ إِلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّباوهذه الآية يشير بها إِلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدّي ذلك إِلى هلاك نفسه بالأسف.